نقد مفهوم كمال التراث الإسلامي- تحديات وآفاق
المؤلف: أسامة يماني10.14.2025

إن الموروث الحضاري هو حصيلة جهود البشرية جمعاء، وكنز دفين يزخر بالمعارف الشعبية العريقة، والتقاليد المتوارثة، والآداب الرفيعة، والثقافة الغنية، والفنون الساحرة، والموسيقى الشجية. ومصطلح التراث يشمل كذلك اجتهادات العلماء وفهمهم العميق للنصوص الدينية المقدسة وتأويلاتهم لها، تلك الاجتهادات التي ارتبطت بأزمنة وأمكنة معينة، والتي ينبغي التعامل معها باعتبارها تجربة إنسانية قابلة للتحليل والنقد والتعديل والتطوير.
إن الاعتقاد الراسخ بكمال التراث الإسلامي يمثل رؤية تعتبر أن هذا التراث قد وصل إلى ذروة النضج والشمولية في جميع جوانب الحياة، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو علمية أو ثقافية. ومع ذلك، فإن التشبث المطلق بهذا المفهوم قد ينطوي على جملة من المثالب والإشكاليات المحتملة التي سنعرضها بإيجاز غير مخل.
إن هذا التصور قد يقود إلى إغفال السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي تشكل فيها هذا التراث، وبالتالي قد يساء فهم الأهداف والظروف التي أدت إلى ظهور بعض الأفكار والممارسات. كما أنه يسيء فهم معاني ومضامين مفردات التراث. وتكمن المشكلة في أن البعض يتخيلون الحياة في العصور الغابرة من خلال منظورهم الحالي للحياة، مما يؤدي إلى استنتاجات خاطئة وعواقب وخيمة. فعلى سبيل المثال، كانت مستويات النظافة والصحة في العصور الماضية قبل العصر الحديث أقل تطوراً بكثير، مما أدى إلى تفشي العديد من الأمراض والأوبئة الفتاكة. ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الواقع في كتبهم وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
علاوة على ذلك، كان التعليم والمعرفة المتاحة محدودًا للغاية، ومقتصرًا على طبقة النخبة في العصور الماضية، وغالبًا ما كان خاضعًا لسيطرة الدولة، وكل ذلك ترك بصماته الواضحة على التراث. ومع ذلك، من الأهمية بمكان أن نتذكر أن هذه النتائج تبرز الفروقات الزمنية والتقدم الهائل الذي حققته البشرية، ويجب النظر إليها بفهم عميق للسياق التاريخي والثقافي لكل حقبة. ولهذا السبب، من الخطأ الجسيم أن نتصور الكمال المطلق في التراث الإنساني.
إن التمسك الأعمى بمفهوم كمال التراث الإسلامي يقود إلى عدد من العيوب والمشكلات، من بينها: الجمود الفكري ومقاومة التغيير والتجديد والتحديث، حيث يُنظر إلى أي محاولة لتطوير أو نقد التراث على أنها مساس بهذا الكمال المزعوم. إن المعوقات التي تعترض سبيل مواجهة التحديات الحديثة في مجتمعاتنا الإسلامية تظهر مدى خطورة مفهوم كمال التراث على مواكبة العلوم الحديثة، وقد تحول دون معالجة التحديات المعاصرة بأساليب مبتكرة تتماشى مع تطورات العصر الحديث، سواء في مجالات العلوم أو التكنولوجيا أو غيرها من المجالات الحيوية الأخرى.
عصر الانغلاق الفكري يشكل مثالًا واضحًا على هيمنة مفهوم كمال التراث، والذي جرى فيه إقصاء الآراء والأفكار المغايرة وتهميشها، بل وتفسيق المخالفين وتكفيرهم في بعض الأحيان. كما عزز الانقسامات العميقة في المجتمعات الإسلامية ذات الخلفيات التراثية والثقافية المختلفة، مما أعاق الحوار البناء والتفاهم المتبادل، ولا يمكننا أن نغفل عن محاربة الإبداع والابتكار، إذ اعتُبر أن كل ما هو مطلوب قد أُنجز في الماضي.
من الضروري الاعتراف بقيمة التراث الإسلامي وأثره العميق، ولكن في الوقت نفسه، يجب تبنيه بنهج نقدي وبناء يتيح الانفتاح على التطور والتغيير لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية بكل ثقة واقتدار.
